الدولار الأمريكي يتراجع وسط مخاوف من ركود اقتصادي من حرب ترامب التجارية

الدولار الأمريكي يتراجع وسط مخاوف من ركود اقتصادي من حرب ترامب التجارية

شهد الدولار الأمريكي بدايةً ضعيفةً هذا العام حيث انخفض مؤشر الدولار بأكثر من 5% منذ بداية 2025 متخليًا عن جميع المكاسب التي حققها منذ فوز ترامب في الانتخابات في نوفمبر 2024، علاوةً على ذلك، قد يكون تراجع الدولار في بدايته: ففي اليوم التالي لإعلان الرئيس دونالد ترامب عن رسوم جمركية في “يوم التحرير”، شهد مؤشر بلومبرج الفوري للدولار أكبر انخفاض يومي له بنسبة 2.1% منذ إطلاقه عام 2005.

قد يتجاهل المستثمرون تراجعًا بهذا الحجم نظرًا لارتفاع قيمة الدولار في سوق تداول العملات بنسبة 18% خلال السنوات الثلاث الماضية، ومع ذلك، يبدو أنهم يبحثون عن ملاذ آمن جديد، مع ارتفاع سعر الذهب بنحو 19% هذا العام ليصل إلى أعلى مستوى له على الإطلاق فوق 3150 دولار.

لا ينبع ضعف الدولار من تطورات السياسة النقدية، فقد أبقي البنك الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية دون تغيير في الربع الأول، بينما خفض البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة الرسمية بنسبة 0.5%، وهو على استعداد لإجراء المزيد من التخفيضات، نتيجةً لذلك، تحركت فروق أسعار الفائدة قصيرة الأجل لصالح الدولار.

العامل الرئيسي الذي يُثقل كاهل الدولار هو الحرب التجارية العالمية التي شنّها ترامب، والتي بدأها بفرض رسوم جمركية على منتجات من كندا والمكسيك والصين، ثم وسّعها لتشمل دولًا أخرى في إعلانه في الثاني من أبريل، حيث صرّح ترامب بأن الولايات المتحدة ستُطبّق رسومًا جمركية شاملة بنسبة 10% على جميع الواردات للولايات المتحدة، وأن رسومًا جمركية متبادلة أعلى بكثير ستُطبّق على الدول التي تُعتبر أنها تنتهج ممارسات تجارية “غير عادلة” ضد الولايات المتحدة بناءً على فوائضها الثنائية، يُمثّل هذا الإجراء قطيعة مع نظام التجارة الدولية الذي ساد بعد الحرب العالمية الثانية، والذي كان قائمًا على مبدأ الدولة الأكثر رعاية.

يُقدّر رئيس قسم الأبحاث الاقتصادية في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني أن الرسوم الجمركية المتبادلة ستزيد من معدل الرسوم الجمركية الفعلي على الواردات الأمريكية إلى حوالي 22% من 2.5% في عام 2024، وفقًا لرويترز، وتعتبر هذه الزيادة أكبر من قانون تعريفات سموت-هاولي الجمركية خلال فترة الكساد الكبير، وقد ترتفع أكثر إذا ردّ شركاء الولايات المتحدة التجاريون وهو أمر مرجح للغاية.

وقد زادت هذه التطورات من احتمالية تعرض الولايات المتحدة للركود التضخمي حيث يتباطأ النشاط الاقتصادي بينما يرتفع التضخم، وقد توقع آخر تحديث سريع لتوقعات 14 اقتصاديًا والذي أُجري قبل الكشف عن التعريفات الجمركية المتبادلة التي فرضها ترامب، أن يبلغ النمو الاقتصادي في الربع الأول 0.3% فقط، بينما من المتوقع أن يظل تضخم نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسي قريبًا من 3%، وفي الوقت نفسه، ازداد خطر حدوث ركود عالمي إذا لم تُلغَ التعريفات الجمركية المتبادلة قريبًا.

احتمالية حدوث أزمة دولارية

ووسط كل هذا، كان انخفاض الدولار حتى الآن معتدلًا، حيث تراجعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات بنحو 0.75% عن ذروتها التي سجلتها في يناير الماضي، وهذا يشير إلى أن المستثمرين يركزون حاليًا على التأثير المثبط للتعريفات الجمركية على النشاط الاقتصادي بدلاً من تأثير ارتفاع الأسعار، ومع ذلك، لا ينبغي استبعاد احتمال حدوث أزمة دولارية (حيث ترتفع عوائد السندات الأمريكية بشكل كبير بينما يضعف الدولار) خاصةً إذا ارتفعت توقعات التضخم.

آخر مرة دخل فيها الدولار في “منطقة الأزمة” كانت في عام 1987، وكانت الظروف المؤدية إلى ذلك هي قوة الدولار الاستثنائية في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي استجابةً لارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، مما ساهم في اتساع العجز التجاري الأمريكي وتباطؤ الاقتصاد الأمريكي، ووقّعت الولايات المتحدة ودول أخرى في مجموعة السبع اتفاقية بلازا في سبتمبر 1985 لتصحيح تجاوز الدولار لحاجزه، مما مكّن الاحتياطي الفيدرالي من تخفيف سياسته النقدية.

مع ذلك، بحلول أوائل عام 1987 انخفض الدولار بشكل حاد مقابل الين الياباني والمارك الألماني، وارتفعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية مع إحجام المستثمرين الأجانب عن شراء السندات الأمريكية، وبناءً على ذلك، تم التوصل إلى اتفاقية جديدة وهي اتفاقية اللوفر لتثبيت سعر الدولار، وعندما أُلغيت الاتفاقية بسبب نزاع حول السياسة النقدية في أكتوبر 1987، كان الدولار في حالة هبوط حاد حيث ارتفعت عوائد سندات الخزانة الأمريكية بنسبة 0.5% وتراجعت سوق الأسهم الأمريكية بأكثر من 20% في يوم واحد، وسرعان ما عالج صانعو السياسات خلافاتهم لتحقيق الاستقرار في الدولار والأسواق المالية، وهو ما أثبت نجاحه.

يتردد الآن في وول ستريت أن سياسة ترامب المتعلقة بالرسوم الجمركية جزء من خطة مُدبّرة لإجبار قادة العالم على تعزيز عملاتهم لدعم قطاع التصنيع الأمريكي وحثهم على بناء مصانع في الولايات المتحدة.

أصل الفكرة (التي أُطلق عليها اسم اتفاقية “مار-أ-لاغو”) هو ورقة بحثية كتبها “ستيفن ميران” الرئيس الحالي لمجلس المستشارين الاقتصاديين أثناء عمله في صندوق تحوط، ومع ذلك، يُقر ميران بأن مثل هذه الاتفاقية غير واردة، لا سيما بالنظر إلى أن أسلوب ترامب التفاوضي الذي يُفضل الاتفاقيات الثنائية على الاتفاقيات متعددة الأطراف، حتى الآن يعتبر ترامب هو صاحب القرار في التجارة فهو يُملي الشروط التي يجب على شركاء أمريكا التجاريين قبولها إذا لم يرغبوا في الخضوع لرسوم جمركية أعلى، وإذا اختاروا الرد، فقد أشار إلى أنه سيرد بالمثل.

ومع ذلك، فإن إجراءات ترامب بشأن التعريفات الجمركية وميله نحو روسيا والابتعاد عن أوكرانيا تُحدث ردود فعل عكسية، إذ يُدرك حلفاء أمريكا أن الولايات المتحدة قد لا تكون شريكًا موثوقًا به، وكتبت هيئة تحرير صحيفة وول ستريت جورنال: “يُحطم السيد ترامب تلك الثقة بمعاقبته حلفاءه ونقضه اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا التي تفاوض عليها في ولايته الأولى”.

يحدث كل هذا في وقت تُعاني فيه الولايات المتحدة من مشكلة “عجز مزدوج” تُشبه تلك التي واجهتها في منتصف الثمانينيات، يبلغ عجز الحساب الجاري الأمريكي 4% من الناتج المحلي الإجمالي بينما يبلغ عجز الموازنة الفيدرالية 6% من الناتج المحلي الإجمالي، وعليه، فإن القدرة على تمويل هذه الاختلالات بشروط مُيسّرة تتوقف على رغبة الكيانات الأجنبية (العامة والخاصة) في امتلاك أصول مُقوّمة بالدولار.

كان المستثمرون الأجانب على استعداد للقيام بذلك سابقًا، لأنهم كانوا ينظرون إلى السياسات الأمريكية بإيجابية ويشعرون بالراحة من التواجد تحت مظلة الأمن الأمريكي، ومع ذلك، إذا استمر الرئيس ترامب في نهجه برفع الرسوم الجمركية دون تمييز، مع تقويضه للتحالفات الأمنية، فقد يُعيد المستثمرون العالميون النظر في استراتيجياتهم.

يُعدّ الذهب حتى الآن الأصل الآمن المُفضّل للكثيرين، ولكن يُمكن للمستثمرين أيضًا تنويع استثماراتهم بالاستثمار في عملات احتياطية أخرى، على سبيل المثال: يعتقد فريق العملات في جولدمان ساكس أن الين الياباني هو المستفيد المُحتمل في حال تصاعد الصراع التجاري العالمي كما ازدادت قوة اليورو، في غضون ذلك، بدأ مستثمرو الأسهم بتحويل استثماراتهم من الأسهم الأمريكية إلى الأسواق الأوروبية وغيرها من الأسواق الدولية.

يتمثل الاختبار المُقبل في إمكانية تسوية الخلل في نظام ما بعد الحرب، للأسف قد تضطر الظروف الاقتصادية إلى مزيد من التدهور لإقناع ترامب بأنه لا يملك القدرة على الفوز في حرب تجارية عالمية، إذا قُطعت العلاقات التجارية، فقد تُضاهي تداعياتها انهيار نظام بريتون وودز لأسعار الصرف الثابتة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، والذي صاحبه ركود تضخمي وضعف الدولار الأمريكي وتقلبات سوقية عالية.

تداعيات الرسوم الجمركية الأمريكية “المتبادلة”

في الثاني من أبريل أو ما يُسمى بيوم التحرير، أعلن الرئيس “دونالد ترامب” عن زيادة هائلة في الرسوم الجمركية على جميع شركائه التجاريين، ليبقى السؤال مطروحًا حول ما إذا كانت هذه الإجراءات ستظل سارية أم لا، لكنها تُمثل بالفعل صدمة غير مسبوقة لنظام التجارة العالمي لما بعد الحرب، فما هي تداعيات هذه الاجراءات:

1 .تحول تاريخي نحو الحمائية

يُمثل فرض ما يُسمى بالرسوم الجمركية “المتبادلة” بنسبة 10% على الأقل والتي ستدخل حيز التنفيذ يوم السبت الخامس من أبريل، تصعيدًا كبيرًا في السياسة التجارية الأمريكية، متجاوزًا حتى أسوأ السيناريوهات ووعود الحملات الانتخابية، سيواجه العديد من الشركاء التجاريين الآخرين تعريفات جمركية أعلي اعتبارًا من التاسع من أبريل: فمثلًا الصين تم فرض رسوم جمركية بنحو 37% والاتحاد الأوروبي بنحو 20% واليابان 24%.

تُعد المكسيك وكندا من بين الدول القليلة التي أفلتت من هذه التعريفات “المتبادلة”، حيث تحتفظان بإمكانية الوصول إلى السوق الأمريكية معفاة من الرسوم الجمركية للسلع التي تتوافق مع اتفاقية الولايات المتحدة والمكسيك وكندا، كما ستُعفى من الرسوم الجمركية أيضًا منتجات الطاقة والمعادن غير المتوفرة محليًا، بالإضافة إلى القطاعات الخاضعة بالفعل لتعريفات جمركية محددة (مثل الصلب والألمنيوم والسيارات) أو التي من المقرر أن تخضع لها في الأسابيع المقبلة.

2 .انقطاع في التجارة العالمية

وفقًا لتقديرات الخبراء الاقتصاديين، سترفع هذه الزيادة متوسط ​​معدل التعريفة الجمركية الفعلي إلى 26.2% (مقارنةً بـ 2.3% في عام 2024) وهو أعلى مستوى له منذ أكثر من قرن، كما يُعد هذا التغيير الأكثر مفاجأة منذ قانون سموت-هاولي لعام 1930.

تمثل هذه الإعلانات انقطاعًا عن معايير التجارة متعددة الأطراف (بما في ذلك قواعد منظمة التجارة العالمية) وتهدد بإثارة دوامة تصاعدية من الإجراءات الحمائية، كما أنها تُضعف سلاسل التوريد وتزيد من حالة عدم اليقين لدى الشركات في وقتٍ يتزايد فيه خطر التشرذم الجغرافي والاقتصادي بالفعل.

3 .تأثيرات متباينة عبر المناطق

ستكون الاقتصادات الآسيوية (فيتنام، كمبوديا، تايوان، ماليزيا، وتايلاند) التي تعتمد جميعها اعتمادًا كبيرًا على التجارة الأمريكية هي الأكثر تضررًا، وستُفرض ضرائب باهظة على صادراتها، كما ستتأثر بعض الاقتصادات الأفريقية (ليسوتو، مدغشقر) واقتصادات أمريكا الوسطى (نيكاراغوا، هندوراس) بشكل كبير، على الرغم من أنها أقل اعتمادًا إلى حد ما.

من بين الاقتصادات الرئيسية، من المتوقع أن تتأثر كوريا الجنوبية واليابان والصين والهند بشدة، وستواجه جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تعريفات جمركية بنسبة 20%، مع تعرض ألمانيا وإيطاليا بشكل خاص.

4 .احتمال تصعيد التجارة

سيكون من الصعب التوصل إلى نتيجة إيجابية على المدى القصير، في حين أبدى الاتحاد الأوروبي والصين، من بين دول أخرى، استعدادهما للرد بفرض ضرائب على المنتجات المستوردة من الولايات المتحدة، يبدو تصعيد التوترات التجارية أمرًا مرجحًا، بل حتمي، فردًا على ذلك، قد يستخدم الاتحاد الأوروبي “أداة مكافحة الإكراه” الجديدة لأول مرة منذ اعتمادها نهاية عام 2023.

على المدى المتوسط، ستؤثر إعادة هيكلة تدفقات التجارة على جميع الاقتصادات: على سبيل المثال: سيُجبر المصدرون الآسيويون على البحث عن فرص جديدة مما قد يُفاقم المنافسة في أسواق أخرى وخاصة أوروبا.

5 .ضعف الاقتصاد الأمريكي

ستؤثر هذه التعريفات على الاقتصاد الأمريكي الذي كان يُظهر بالفعل علامات ضعف، مع انخفاض استهلاك الأسر في بداية عام 2025 (0.1% فقط في فبراير بعد انكماش في يناير)، كما أن ارتفاع التكاليف الناتجة عن زيادة أسعار الاستيراد قد يُبطئ بشكل كبير قرارات الاستثمار للشركات وقرارات الشراء للمستهلكين.

وسيتم مراقبة تأثيرها على التضخم الذي كان من المتوقع أن يبلغ متوسطه 2.8% في عام 2025 قبل إعلانات الرسوم الجمركية الأخيرة، أشارت بعض التقديرات التي وُضعت خلال حملة العام الماضي إلى أن مثل هذه الزيادات في التعريفات قد تُضيف ما يصل إلى نقطتين مئويتين إلى التضخم هذا العام.

إن تزايد خطر التضخم في فترة ركود محتملة سيُعقّد مهمة الاحتياطي الفيدرالي الذي سيضطر إلى المضي قدمًا بحذر أكبر في تخفيضات أسعار الفائدة المُخطط لها.